.

الناجي: واقعة فتاتي إنزكان مؤشر على "أزمة قد تنفجر"



عاد الباحث المغربي، موحى الناجي، إلى حادثة اعتقال فتاتين بمدينة إنزكان، بتهمة "الإخلال بالحياء العام"، حيث أكد أن ما وقع هو أحد أعراض أزمة قد تنفجر، كما وقع في تونس"، مشددا على ضرورة "إعادة النظر في المواد القانونية المبهمة التي يمكن تأويلها لأسباب إيديولوجية".
وأورد الباحث، في مقال توصلت به هسبريس، أن "مجال الحريات الفردية والعامة تتراجع بالمغرب، لأسباب رئيسة، منها ضعف البصيرة بحقيقة الدين، وقلة المعرفة بفقهه، وأيضا تصاعد الإسلام السياسي، فضلا عن عوامل اقتصادية واجتماعية، من قبيل تفشي البطالة والفقر والأمية.
وهذا نص مقال موحى الناجي كما ورد إلى الجريدة:
نزلت فتاتان من مدينة أكادير إلى المدينة الصغيرة المجاورة إنزكان لشراء مستحضرات التجميل، لأن كلاهما يعملان في صالون لتصفيف الشعر. دخلتا بالكاد إلى السوق، وبدأ الرجال بالتحرش ومحاولة الاقتراب منهما قبل انضمام آخرين وهم يهتفون "اللهم إن هذا منكر" احتجاجا على ملابسهما: التنورة القصيرة والقميص الصيفي.
وبينما رحب بهما تاجر في متجره لحمايتهما من الحشد الذي كان يحيط بهما، تجمهر المئات بفضاء السوق. إثر ذلك همت الفتاتان بنداء رجال الشرطة لحمايتهما. واعتقدت الفتاتان في بادئ الأمر أن ضباط الشرطة قد حضروا لمساعدتهما على مغادرة السوق بسلام.
وكم كان اندهاشهما كبيرا لما تم اقتيادهما إلى مركز الشرطة، حيث صدر الأمر باحتجازهما لمدة 48 ساعة، وإعداد محضر من أجل تقديمهما إلى العدالة بتهمة "الإخلال بالحياء العام". واستندت السلطات القضائية إلى الفصل 483 من القانون الجنائي الذي يعاقب كل من أخل بالحياء العام.
وهنا أود إبداء ملاحظتين:
أولا، الفصل 483 فضفاض في مجمله، إذ لا يحظر البتة نوعا من اللباس.
ثانيا، الواقعة سابقة خطيرة تشجع للغاية على العنف ضد النساء. ونتساءل لماذا لا يطبق القانون 483 في الرباط والدار البيضاء؟ ولماذا لا يطبق هذا القانون في الحالات اليومية للتحرش الجنسي المتفشي في أوساط الرجال؟
في اعتقادي يجب تغيير المادة 483 أو إلغاؤها لأنها تؤثر سلبا في الحياة اليومية للمغاربة. للتذكير فالدستور المغربي واضح جدا: الرجل والمرأة يتمتعان بنفس الحقوق والحريات، ناهيك عن الاتفاقيات الدولية التي وقع المغرب عليها والتي تشير العديد من بنودها إلى ضرورة احترام الحريات الفردية والجماعية.
إن هدف من هم وراء واقعة إنزكان هو الرجوع بنا إلى عصر استعباد الإنسان. وقد كان المغرب ولا يزال منذ الاستقلال بلدا منفتحا ومرتبطا بالحداثة، وذو طموح إلى الديمقراطية، دون التفريط في قيمه الإسلامية السمحة والمعتمدة على العقل لا الشهوات الحيوانية وقانون الغاب.
لكن بهذه السلوكات المشينة نحن في طريق معاكس للحداثة التي ننادي بها. إن متابعة الفتاتين معناه أن بلادنا ستدخل مسلسل شرع الشارع وقانون الغاب. وسيمكن لأي فرد أو جماعة اعتراض سبيل الفتيات والنساء والسائحات بحجة أن لباسهن يخل بالحياء، ما سيصعد العنف المجتمعي ضد النساء ويشجع الفوضى والفتنة. والفتنة أشد من القتل. فهل بدأ الفكر الإسلامي المتطرف ينخر عقول شبابنا وكهولنا؟ وهل أخذ المغرب يتراجع في مجال الحريات الفردية والعامة؟ وما هي أسباب هذا التراجع؟ ومن المؤكد أن هذا التراجع لم يأت اعتباطاً، ولم ينشأ جزافاً، بل له أسبابه ودواعيه.
في اعتقادي له أربعة أسباب رئيسية: ضعف البصيرة بحقيقة الدين، وقلة المعرفة بفقهه. ومن هذه الأسباب ما هو سياسي (تصاعد الإسلام السياسي)، وما هو اجتماعي واقتصادي حيث تفشي البطالة والفقر والأمية.
وإذا كان تدخل عناصر الأمن ضروريا في هذه النازلة حيث حال دون تسجيل أي مساس بالأمن والنظام العام، أو حدوث أفعال عنف جسدية ضد الفتاتين، فإن تدخل أشخاص أو جماعات في الحريات الشخصية يعكس صورة مظلمة للمغرب ونحن بلد سياحي بامتياز يدعو للدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان. فما كانت الشرطة أن تعتقل هاتين الفتاتين، وما كان ينبغي احتجازهما وملاحقتهما قضائيا. فالمطلوب الآن إسقاط متابعة الفتاتين لابسَتَي التنورتين فورا.
شخصيا أؤيد الاحتجاجات التي تقوم بها الجمعيات النسائية والحقوقية لأن ضمان الحريات الفردية يعدّ من صميم التعاقد بين الأفراد داخل المجتمع، واللباس يبقى على كل حال حرية فردية يجب أن تحترم. وما يعد أمرًا إيجابيًا هو أن الرأي العام المغربي أصبح يهتم كثيرًا بمثل هذه القضايا الحقوقية.
إن ما حدث في إنزكان عرض من أعراض الأزمة التي قد تنفجر لا قدر الله، كما وقع في تونس. إننا في حاجة إلى تعبئة عامة لأن الوضع خطير للغاية. وبات من المطلوب إعادة النظر في المواد القانونية المبهمة التي يمكن تأويلها لأسباب إيديولوجية ونحن بصدد إصلاح منظومة القضاء.
لقد حان الوقت لمراجعة بنود مثل فصل 483 التي تحكمنا في حياتنا اليومية كمواطنين والتي تتعارض مع الحريات الفردية والعامة. ناهيك عن التأثير السلبي على الاستثمارات الأجنبية وعلى السياحة، وعلى صورتنا ورفاهيتنا كمجتمع. الناس لا يدركون أننا نعيش في فترة انتقالية صعبة، وغدا، يمكن أن تزداد الوضعية سوءا إذا لم يتم تدارك الأمور.
وبدلا من حظر شكل من أشكال اللباس، فإنه ينبغي تعليم الرجال أن الغرائز الحيوانية لا ينبغي أن تتحكم في سلوكياتهم، نفس الرجال الذين يصنعون القانون والقرار.
أي مجتمع نريد لأنفسنا ولأبنائنا وبناتنا؟ لا نريد أن يمنع بلدنا لباس التنورة أو أن يفرض الحجاب أو يمنعه. فالمغرب كان دائما بلد التسامح والتعايش والتنوع الثقافي يسع لجمع الشرائح والأذواق ولكل أبنائه وبناته، لا فرق فيه بين ذكر وأنثى كما ينص على ذلك الدستور.
وفي تناقض صارخ بين خطاب الدولة الرسمي وواقع حرية الرأي والتعبير على الأرض يشير عدد من الملاحظين إلى تصاعد الانتهاكات لحرية التعبير في السنوات الأخيرة. وهناك حالات الذين تعرضوا للسجن أو التضييق جراء ممارسة حقهم في حرية الرأي والتعبير، بالإضافة إلى الضغوط الكبيرة التي تتعرض لها جمعية المغربية لحقوق الإنسان.
وختاما كفى من التضييق على الحريات الفردية والعامة. وعلى الدولة التدخل لحماية الحقوق والحريات، وعدم السماح للأفراد والجماعات بتعويض مؤسسات الدولة في تطبيق القانون. نحن دولة المؤسسات والحق والقانون الذي يعلو ولا يعلى عليه. وعلينا التشبث بثقافتنا المتنوعة وبحضارتنا المنفتحة التي تضمن الحرية الفردية لكل شخص لأن المغرب كان وسيبقى بلد التسامح وحسن الضيافة والتعددية والقيم السمحاء.
وفي هذا الإطار، يمكن لوزارات التربية والتعليم العالي والثقافة والإعلام والشؤون الإسلامية والعدل القيام بحملة توعية لدى جميع الجهات الفاعلة والتأكيد على أهمية تقوية قيم التسامح واحترام التنوع والاختلاف.
وقد أظهرت الدراسات التجريبية أن تلقين ثقافة التسامح تعود بالنفع ليس فقط على الشخص حيث تساهم في تنمية قدراته الفكرية والثقافية وتحثه على تقبل واحترام الآخر، بل تؤثر إيجابا على الجماعات وتذكرهم بوجود التنوع الثقافي وإيجابياته وضرورة احترامه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق